على ذات الطاولة التي كنا نجلس فيها معًا و يفصل بيني و بينك كوبي قهوة، كعك و وردة ، استقبلتني برودة المقعد الخالي و الكوب الواحد و صوت النادل يخبرني أنهم لن يعودوا لتقديم تلك الكعكة مجدداً ..
هي الأخرى لن تعود و كأن اتساع الفجوة بيننا لمسافات لا أستطيع الربط بينها أخذت معها كل ما اعتدته معك.
لأول مرة أرى تفاصيل المكان و أشعر به :
صوت المعزوفة متداخلًا مع ضحكات مرتادي المقهى و نقاشاتهم، ألوان الكراسي، نقوش الحائط، ملامح العائلات و الأصدقاء و حتى المُنزَوِي على كتابه في موعد مميز مع صفحاته.
أتمعّن كيف أنّ مشاعر الإنسان تُرسم على محيّاه و تسيطر على قلبه فيترجمها جسده ، يحيينا شعور و يهزمه آخر، نتحرك كما نشعر و نقع بسبب شعورٍ أعمانا، نزرعُ الشعور طويلًا و تقتلعه ببساطة قوة شعور أكبر منه في لحظات، نتصرف دون وعي بقيادة الشعور و نجني نتيجة ذلك "شعور".
و يا لغرابة المشاعر كيف تتبدل حتى نغدو أشخاصًا لا نعرفهم و لم نعتدهم ؟! نضع حدود و نخط قيود، نتقدم و نبقي وراءنا كومة من التجاوزات، نخطو بقدم تفقد توازنها عند التعافي و تقف بصمود على أوجاعنا، نتشبّث بصغائر الأمور حتى نعلن استقرارنا.
توقفت عند ذلك الوجه المألوف الذي ينظر للمقعد المقابل لي ، وحين ألتقت نظراتنا ارتدينا ثياب الغربة و تسلحّت ملامحنا بالجمود.
أصبحت نظراته خاطفة، باردة، سريعة و موحشة.
اختفى الدفئ الذي بيننا و حلّقت بعيدًا تلك النظرة المطولة التي يدفعها قلبه لتخرج من عينيه تتبعها تنهيدة فابتسامة تغمرني لأحضن جسدي و استشعرها، أتلمّس وقع مشاعرها على جسدي و سريانها في عروقي حتى تظهر على وجنتيّ بكل خجل.
ساد البرود و أنقطعت الأصوات حتى أنني لم آبه حينها للجدل القائم بين رجاحة عقلي و لهفة قلبي، انهلّت الذكريات في كل خطوة تخطوها و أنت تخرج..
بدا للوقت مرارة أذابت حلاوة ما سبق، طغت حتى تمكّنت و تنازع الشعور يأبى المغادرة.. فغادرت تاركةً إياه على ذلك المقعد.